صورة ارشيفية : المستشفى الميداني للمطاهرات |
بقلم : طاهر مختار
عضو مجلس نقابة أطباء الإسكندرية
عضو حركة أطباء بلا حقوق
حق المواطن في الصحة هو حق أصيل له عند الدولة ، لا يجب أن تتقاعس الدولة عن تقديمه تحت أي ظرف من الظروف ، فهو من أولويات الإنفاق الحكومي عند أي نظام يحترم الإنسان ، ومنع تقديم الخدمات الصحية هو جريمة في حد ذاته .
وإذا كان تقصير النظام المصري في تقديم الخدمات الصحية
للمواطنين واضحاً للعيان بسبب ضعف الإنفاق الحكومي على الصحة في مصر ، لكن هناك
شكلا آخرا يبدو متعمدا من أشكال حرمان فئة خاصة من المواطنين من الحصول حتى
على هذا الجزء "الضئيل" من الحق في الصحة في مصر ، هذه الفئة هي المساجين
سواء كان سجنهم كعقوبة أو كفترة حبس احتياطي على ذمة القضايا
.
خلال الشهر الأخير حدثت 3 وقائع بخصوص هذا الموضوع
بالإسكندرية وكان لها صدى إعلامي كبير لأنها متعلقة بأحداث لها علاقة بالثورة
المصرية .
واقعة الطفل محمود عادل – مريض سرطان العظام
الواقعة الأولى هي واقعة الطفل محمود عادل صاحب
ال 14 عاما المصاب بسرطان في العظام منذ أكثر من عام والذي تم القبض عليه أثناء
القبض العشوائي على المتظاهرين في ذكرى الثورة المصرية الثانية ، وهو الطفل الذي
ظل أسبوعاً في الحبس الاحتياطي قبل العرض على الطبيب في المستشفى الجامعي الرئيسي
أثناء النوباتجية والذي يقوم بالكشف الإكلينيكي عليه بدون عمل اي فحوصات ثم يقرر رجوعه
إلى الزنزانة بدلاً من الحجز عنده في المستشفى حتى يتم الفحوصات في اليوم التالي ,
وعندما عاد الطفل في اليوم التالي وقام الطبيب بعمل الفحوصات للمريض ووجد أن حالته
لم تتفاقم عن المرة الأخيرة قرر عرضه على طبيب العظام في مستشفى الحضرة الجامعي ،
وبدلا من عرضه من القسم عنده قام بإرجاعه للسجن مرة أخرى على أن يتم العرض من
السجن ! حاولت كثيرا إقناع هذا الطبيب بأن طفلاً مثلا هذا ليس السجن هو المكان
الأمثل له كطفل مريض بالسرطان حتى لو كانت حالته لم تتفاقم وحتى لو كان القرار
بالنسبة لأقرانه أصحاب نفس حالته هو العودة للمنزل ثم العرض على طبيب العظام في
وقت لاحق ، لأن المنزل ليس كالسجن بأي حال من الأحوال ، ونحن في حالة هذا الطفل
أمام خيارين للحبس الاحتياطي, وهما إما السجن أو المستشفى ، وبالتأكيد السجن ليس
هو المكان المناسب له للحصول على الغذاء الملائم لحالته وليس هو المكان الذي نضمن
فيه ألا يتم معاملته بخشونه وعدم آدمية كما نعلم أنه يتم مع باقي المساجين وهو ما
يعرضه للكسور بنسبة أكبر من غيره بسبب طبيعة إصابته بسرطان العظام كما أن السجن
ليس مناسبا لحالته النفسية كمريض بالسرطان تؤثر حالته النفسية على مرضه ، ولكن لا
حياة لمن تنادي ، فقد قرر الطبيب أن قصة السجن لا تخصه ، وأنه سوف يعامله كأقرانه
وسوف يقرر خروجه ، وليست قصته أين سوف يقضي ليلته , ومع أن من أبسط المبادئ الطبية
أن يتأكد الطبيب أن المريض سوف يكون قادرا على تنفيذ تعليماته الطبية وأن الرعاية
سوف تكون ملائمة له وهو خارج المستشفى وإلا فالحجز في المستشفى هو الخيار الوحيد المناسب له
، تناسى الطبيب الوضع الخاص للمريض وتذكر فقط "بروتوكولات" الحجز
التقليدية في المستشفى والتي كان يجب أن تضم مثل هذه الحالات ، حتى لو لم يتص عليه
فالأطباء أيضا يعرفون بـ "الحكماء" الذين يقدرون الأمر برمته
.
واقعة المرحوم حسن شعبان
الواقعة الثانية
كانت واقعة المرحوم حسن شعبان صاحب الـ 35
عاما والذي توفي في محبسه الاحتياطي يوم الأربعاء الموافق 13 فبراير في سجن
الغربانيات في برج العرب , حيث تم التجديد له فيه من القاضي لـ 15 يوما إثر القبض
العشوائي عليه مع المتواجدين في نطاق الأحداث أثناء اشتباكات سيدي جابر يوم الجمعة
الموافق 8 فبراير ، وقد كان المرحوم يعاني من داء السكري وقصور في الشرايين
التاجية للقلب ورفرفة فوق أذينية , وقد كان محجوزا في العناية المركزة لمستشفى
جمال عبد الناصر في الأيام الأخيرة لشهر يناير الماضي أي قبل الأحداث بأقل من 20 يوما
, وقد حاول أهله وبعض النشطاء توفير العلاج له في محبسه أو عرضه على طبيب ولكن لم
تجدي محاولاتهم ، وقد رفض مسئولي السجن إدخال الإنسولين له لأنه يحتاج الحفظ في
الثلاجة ولا يوجد ثلاجة عندهم للمساجين ، فكانت النتيجة وفاة حسن شعبان بسبب
حرمانه من حقه في العلاج .
واقعة محمد بسيوني وفتحي محمد "عمال بورتلاند" – مصابين بكسور
الواقعة الثالثة وهي الخاصة بالعاملين محمد
بسيوني وفتحي محمد المصابين بالعصي الغليظة لعساكر الأمن المركزي أثناء فض اعتصام
مصنع بورتلاند للأسمنت يوم الأحد الموافق 17 فبراير فكسرت ذراع فتحي بجانب كدمات
وجروح متعددة في جسده بينما كسرت يد محمد بسيوني وكسر فكه الأسفل في موضعين ، وقد
تم عرضهما يومها على المستشفى الأميري الجامعي التي قام أطباؤها بعمل جبيرة ليد كل
منهما ، ولكن ظل فك محمد بسيوني بدون علاج ، ثم اصطحب كلاهما لسجن الدخيلة للحبس
الاحتياطي بكل ما بهما من كسور ، ولا يحصلان في محبسهما اللذان ينامان على بلاطه
في برد الشتاء سوى على بعض المسكنات ، وربما يتطوع طبيب أو آخر بالتغيير على
جروحهما بشكل إنساني عندما يسمع عن قضيتهما , وفي اليوم الخامس التالي للأحداث قرر
المحامون تقديم التماس للمحامي العام الأول لنيابات الإسكندرية لنقلهما إلى
المستشفى ، وبعد إجراءات معقدة بدأت من تأشيرة محامي عام نيابات غرب الإسكندرية
لمأمور قسم الدخيلة لإنتداب مفتش صحة لتقييم الحالة وبيان مدى حاجتهما للنقل
للمستشفى ومع قرار مفتش الصحة بنقلهما بشكل عاجل بسبب الكسور التي يعانيان منها ثم
إجراءات نقلهما البطيئة من قبل قسم الدخيلة وصل المصابان إلى المستشفى الرئيسي
الجامعي في الخامسة من صباح اليوم التالي ليقابل الأطباء الحالتين بكل ما بهما من
كسور ويثبتانها في التقارير ، ويتم تحويل فتحي إلى مستشفى الحضرة الجامعي التي تعيده
إلى زنزاته ، بينما تقرر طبيبة جراحة الوجه والفكين أيضا عودة المصاب بكسرين في
الفك السفلي محمد بسيوني إلى عيادة جراحة الوجه والفكين في كلية طب الأسنان يوم
الإثنين المقبل مع كتابة بعض التعليمات والأدوية له ومن ضمنها عمل كمادات مياه
دافئة وتناول سوائل وأغذية سهلة الهضم مع عودته إلى زنزانته اليوم حتى موعد العرض
لأن حالته لا تحتاج الحجز بكل كسوره من وجهة نظرها , حاولت مناقشتها في قرارها ،
قالت : إنها التعليمات ؛ تعليمات رئيس القسم , قلت لها سوف يكون مقبولا لو كان سوف
يعود إلى منزله حيث هناك من يعد له الاغذية سهلة الهضم ويتابع معه علاجه ويقوم
بعمل الكمادات له ، ولكن هذا المريض سوف يعود إلى السجن للنوم على البلاط ولن
يتابعه أحد ، قالت : "التعليمات
مشددة أكثر في حالة المساجين بعد الحجز." , حاولت مناقشتها طبياً وكيف أنه لا
يأكل في السجن بسبب حالة فكه ومن الأفضل متابعته في المستشفى وعمل التحاليل
الدورية له ، ولكن لا حياة لمن تنادي وسط ردها : "إنها التعليمات .
" , وقد أكدت
الطبيبة أن ضميرها مستريح تماما للقرار حينما سألتها , ورجع المصاب بالفعل للسجن ،
وبالمناسبة فإن التقرير الطبي للمصاب محمد بسيوني الذي تم عمله في أول يوم الواقعة
قد تم تسليمه لجهاز الأمن الوطن .
ثلاث وقائع قد تبدو للكثيرين أنها غريبة وغير
منطقية ، ولكنها للأسف حدثت وكنت شاهداً على معظم أحداثها ، وحاولت النقاش مع
الأطباء أصحاب القرار في الحالتين الأولى والثالثة ولكن لم يجدِ النقاش أي نفع ،
الآن أتمنى أن يشترك كل المهتمين بحقوق الإنسان في المجتمع برمته للبحث عن حلول
جذرية لمثل هذه الأمور ، فنحن لا نتحمل حسن شعبان جديد ، وسوف ألقي النظر على بعض أسباب
هذه الظاهرة من وجهة نظري لعلها تساعد في الوصول لحل .
أسباب حجب حق المساجين في الصحة في دولة تظلم حتى الأبرياء
أهم الأسباب وأصعبها على الحل من وجهة نظري هو عدم استقلالية الأطباء في اتخاذ القرار ، وأهم سبب لذلك هو ضعف دخلهم المادي الشديد في المستشفيات الحكومية داخل مصر فيلجؤون للعمل الخاص والذي يتحكم فيه كبار الأساتذة والأطباء الذين يسعى صغار الأطباء لإرضائهم ، وأيضا بسبب الهيمنة الكاملة لأساتذة الجامعة على أقسامهم وفرض نظام هرمي صارم للأقدمية أكثر صرامة من الجيش ، والصورة الأقرب له هي "الكهنوت" ، فأستاذ الجامعة بالنسبة للنواب والمعيدين هو المتحكم في تعليمهم والمتحكم في رسالة الماجيستير أو الدكتوراة الخاصة بهم وهي الأمور التي إن حصل عليها الطبيب سوف تفتح أمامه أبواب النعيم سواء للعمل في القطاع الخاص وفتح عيادة طبية أو السفر للخارج حيث العقود المحترمة التي تعطي الطبيب الكثير من حقه المهضوم ، لذا فأن العمل على رفع أجر الطبيب وتحقيق المزيد من الاستقلالية المادية له ، وإيجاد طرق بديلة للترقية تخفف من تحكم أساتذة الجماعة فيهم مثل فتح باب الزمالات أمام الجميع للترقية لأخصائئ واستشاري سوف يقلل من مثل هذه الضغوط عليهم .
السبب الثاني هو نظرة العديد من الأطباء مثل معظم أفراد الطبقة المتوسطة للمساجين على أنهم جميعا مجرمين حتى لو لم يتم الحكم عليهم مثل حالات الحبس الاحتياطي فتفتقر نظرة الأطباء لهم للإنسانية المفترض تواجدها عند تعامل الطبيب مع أي مريض حتى لو كان مجرماً محكوما ًعليه ,أو عدواً محارباً له أو مخالفاً له في المعتقد أوالجنس أوالأصل كما ينص قسم الأطباء ، ومثل هذه النقاط يمكن حلها بمزيد من التوعية للأطباء والتأكيد على آداب مهنة الطب السامية التي تطلب من الطبيب أن ينظر للمريض أو المصاب الذي أمامه على أنه "إنسان" فقط .
السبب الثالث هو عدم رغبة الأطباء في أن يكون في قسمهم مسجوناً تكون معه حراسة من الشرطة تجعل هناك وضعا استثنائياً داخل القسم لا يستطيع الطبيب التعامل فيه مع الحالات الأخرى براحة كافية , وأيضا خوفاً من التواجد الإعلامي في القضايا التي تشكل رأي عام كما قال لي الطبيب عن حالة الطفل محمود عادل المصاب بالسرطان ، وهو ما يمكن حله عن طريق وجود غرفة خاصة في كل قسم لمثل هذه الحالات وحتى لو لم تتوافر ليس هذا مبررا لجريمة حرمان مريض أو مصاب من حقه في العلاج .
السبب الرابع هو ضعف المعرفة القانونية المتصلة بالطب عند معظم الأطباء مما يجعلهم مترددين دائما وخائفين من معارضة رؤساء أقسامهم في مثل هذه القرارات التي تحتاج إنسانية من الطبيب واستقلالية منه وممكن تنظيم بعض الدورات القانونية التثقيفية للأطباء لتغطية هذا الجانب من قبل القانونيين والحقوقيين المهتمين .
يجب أن يعلم زملائي الأطباء أنه في مثل هذه
الحالات دورهم يكون محوري بالنسبة للمريض ولا يقل أهمية عن دور وكيل النيابة في
تحديد مكان حجزه ، مع تمتع الطبيب بالبعد الإنساني والعلمي الطبي الذي يجعله يقرر
المكان الأنسب للمريض طبقا للصورة الكلية التي أمامه وليس طبقا للبروتوكولات
التقليدية للحجز والتي تطبق على المريض التقليدي إن لم يتم حجزه في المستشفى يمكن
ضمان تنفيذ علاجه في البيت مع عودته للمستشفى حيثما اراد فور حدوث بعض الآلام أو
المضاعفات وهو ما لايحدث في السجن الذي يتم نقل المريض منه بصعوبة وبإجراءات معقدة
للمستشفى تجعل إغاثته مستحيلة في بعض الأحيان كما حدث مع المرحوم حسن شعبان ، فهل
من المنطقي ونحن نعلم كأطباء أن المصاب بكسر أو ورم خبيث إن لم يتم حجزه في المستشفى
سوف يعود إلى السجن أن نتركه يعود بكل هذه الآلام والأخطار ؟ تذكروا أن هؤلاء
المرضى والمصابين القطاع الخاص ليس متاحا أمامهم للعلاج وهم في السجن مثل باقي المواطنين
.
زملائي الأطباء
: "مسئوليتنا
الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية عظيمة جدا في هذه الأثناء ، ويجب أن نحافظ على
ثقة المجتمع فينا من خلال مراعاة ضمائرنا وعدم الاستجابة لأي ضغوط تمارس علينا ،
فنحن من سنحاسب ، ولا يجب أبدأ أن نكون أداة في يد النظام كما هي الداخلية التي
تقمع وتقتل حتى لا يكون هناك حنقا تجاهنا مثل هذا الجهاز غير الإنساني، وكما هي
النيابة العامة التي أصبحت لا تراعي البعد الإنساني للقضايا المطروحة أمامها إلا
فيما ندر" .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق