|
نيللي كريم بطلة ممسلسل "بنت إسمها ذات" |
بقلم : رغدة مصطفى
كان ميلادها عام ميلاد ثورة هى ثورة يوليو، التى ساند فيها الشعب جيشه
بإنهاء عهد الملكية، وانتهاج النظام الجمهوري، وقد تتال عليها من بعدها الحكام
والثوارت الشعبية، لنشاهد معها كيفية إعادة الحكام لهيكلة أنظمتهم ظالمة متجبرة
بصور مختلفة على شعوبهم، وكيفية تشكل الوعى الجمعي لدى الشعب المصرى، وتغريد
متمرديه وثواره خارج السرب.
مسيرة وطن
لم تكن رحلة فتاة بل كانت مسيرة وطن، تمكن الروائى المبدع صنع الله
إبراهيم من إبرازها بروايته "بنت اسمها ذات"، والتى صاغتها كاملة أبو
ذكرى بمشاركة المخرج خيرى بشارة مسلسلاً رمضانياً هذا العام، أعد حواره السيناريست
مريم نعوم بدقة وإبداع، يسرد المسلسل التليفزيونى قصة فتاة منذ لحظة ميلادها عام 1952م، ليستعرض من خلالها تاريخ مصر الحديث منذ هذا العام إلى مطلع الألفية
الثانية.
كان تشابك المشاهد التسجيلية للشوارع قديما ومشاهد الحروب والكوارث
وخطابات الحكام وجنازات المشاهير بنسيج المسلسل، بالإضافة إلى خلفيته الغنائية
المتغيرة بمرور الزمن حينها، وتغير نجومه والذوق الفنى العام كل هذا التشابك
بحرفية شديدة أضفى نمطاً وثائقياً على المسلسل، دون أن يطفىء روحه، إذ كانت تحييه
أحداثه الإجتماعية المتلاحقة.
كما مكننا تضفير الأحدث التاريخية
بالإجتماعية من تفسير الكثير من التغيرات الطارئة على مجتمعنا والشخصية المصرية،
كهجرة يهود مصر فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مع اشتداد الصراع العربى
الإسرائيلى، وعقب انتشار الخطابات العدائية والتحريضية ضدهم، وتفشى الكراهية
العمياء والعنصرية، التى لا تفرق بين الصهاينة أعداء الوطن وبين اليهود أبناء هذا
الوطن وإخوتنا، مما أخل بالتركيبة المصرية، وأفقدنا وجهاً من وجوه مصر.
نماذج إنسانية حقيقية
وقد استطاعت لغة وحوار مريم نعوم تجسيد مجتمعنا واقعاً ملموساً، وكأنها
نفخت في العمل الدرامى الروح، سمح لها ما تملكه من ثراء لغوي وتنوع بمفرداتها من عكس
تغيرات مجتمعنا وتحولاته بمرور السنين، مما ساهم بتشكيل نماذج إنسانية حقيقية
ومتنوعة، بما تحمله من متناقضات، ولم يحرمنا التوثيق التاريخى من التمتع بتفاصيل
العمل من شخصيات وأحداث.
ملامح وجه وعيون تكشف الحب والدهشة الغيرة والحسد الحزن والفرح، دموع
بلا آهات تتساقط، لم تكن "ذات" بطلة هذا العمل التى جسدتها الممثلة نيلى
كريم تجيد التحدث عن ذاتها، أو كشف آلامها أو التعبير عن رغباتها، كان وجهها هو الفاضح،
وشخصيتها منعزلة شعوريا عن من حولها لا إنعزال مطلق سلبى، إذ لم تملك مفاتيح تفسير
عالمها بشخوصه.
الحياة أعادت تشكيلها ومنحتها قوة، أبرز ما استطاعت أن تحافظ عليه
بقوتها كان استمرارها متسامحة مع مخالفيها دينيا وإجتماعيا، بيتها تحول لكنيسة فى
نظر أقاربها وصديقاتها لمجرد إنها سمحت لمسئولة النظافة ببيتها المسيحية الاستماع
لشريط دينى تأتنس به، أن تكون متسامحا فهو أمر يدعو للفرح، لكن أن تكون متسامحا
بمجتمع تفشت فيه العنصرية والكراهية فهى بطولة وقوة تدعو للفخر.
تراكم الخبرات والإحتكاك بالواقع
هكذا ذهبت المخرجة كاملة أبو ذكرى لتفاصيل الشخصيات ترسمها بدقة، لم
تكتفى بأطرها العامة، تنقلت ما بين طباع الشخصية وصفاتها المكتسبة بتراكم الخبرات
والإحتكاك بالواقع إلى لازمات الكلام، وتلقائية حركات الأيدى وتعبيرات الوجوه
ونظرات الأعين.
"أوف كورس" ما أن تسمعها تبتسم، هى
أشهر لزمات عبد المجيد زوج ذات ـ الشخصية التى جسدها الممثل باسم سمرة ـ كان
ينطقها بلغته الإنجليزية الركيكة، تمسكه بحشو حديثه ببعض المفردات الأجنبية رغبة
داخلية بأن يعلو بذاته، وكرسالة لمن حوله بأن عدم إكتماله لتعليمه الجامعي لم يحول
بينه وبين إكتساب ثقافته الخاصة.
صريح ... عبد المجيد
نموذج صريح عبد المجيد لمن شكل وعيه المتاح، ولمن يتشرب المعروض عليه
دون نقد، وكالغالبية من الشعب المصري يحمل بداخله مخزون أخلاقيا، يجعله لا يظلم،
وكم لا بأس به من الخوف يجعله متقبل لقهره.
الصراحة المفرطة المتناسية للياقة أبرز ما اكتسبته والدة ذات بمرور
العمر، تلبست انتصار روح الجدة ببراعة مدهشة، أظهرت بتلقائية قدرة الزمن على
التغيير منا، تعبيرات ملامحها وحركات جسدها كانت سيمفونية أخرى تعزف لنا ذكرياتنا مع
الأجداد.
القادم من ... أمريكا
تحجرها أمام ابنها القادم من أمريكا بعد غياب سنوات طوال، ما بين
اشتياقها له وغضبها منه، إذ رجع لمصر عقب وفاة والده وانتهاء مراسم الدفن والعزاء،
وما بين رغبتها فى العتاب وفى الصمت عقاباً، مشهداً عبقريا أوجعتنا به إنتصار.
شخصيات
تعددت شخصيات العمل الدرامي وتنوعت وقد نجح العمل بتجسيدهم لنا حقيقة
ملموسة، إلا أنه فشل بتقديم نموذج الشخصية المتمردة، إذ لم ينظر لها بشكل إنسانى، يحمل
بداخله المتناقضات كما جميع البشر من خير وشر قوة وضعف، نظرته الفوقية لها غربتها
عن الجمهور، لم يرتبط أحد بعزيز المتمرد الذى جسده هانى عادل وإن احترمه.
ذات ... جموع الغاضبين
إنضمام ذات لجموع الغاضبين والثائرين من الشعب المصرى بمشهد الختام يوم
الخامس والعشرين من يناير لم يأتى مخططا له، بل غريزيا من وجع القهر بإعتقال
ابنتها، رأت الجموع السائرة تهتف للحرية والعدل، جذبتها روحها المعذبة إليهم،
فسارت فى ركب الثائرين دون تفكر،لم يكن ليتقبل أن تتحول ذات فى يوم وليلة لبطلة تقود مظاهرة، تهتف ويرد
الثوار من ورائها، كمشهد بطولي لختام معتاد، بل كان الأصدق أن تكون فردا ضمن
الجموع التى خرجت لتعرضها لاضطهاد شخصى، ومع تراكم الظلم الفردى عليها والعام على الوطن،
يصبح بديهيا تقبل تواجدها بتظاهرات الخامس والعشرين من يناير.
ويبقى مسلسل ذات للبعض منا محاولة..، نسعى من خلال تتبع حلقاته لخوض
تجربة ما..، تمكنا من ملامسة ذواتنا،
وتتبع لمحات عن أفراد من أصدقائنا أو أقاربنا وجيران لنا، رغبة لتفهم الواقع
والبشر من حولنا، كان مرآتنا الكاشفة عن أحلامنا ورغباتنا، عن أوجاعنا ونقائصنا،
كان بحث عن الإنسان داخلنا بضعفه وطهره وتناقضاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق